لا غرابة إذن أن تكون السلطة و الحكم و النظام في مصر دائماً و أبداً هي أكبر دعاة الاعتدال المصري المزعوم و أشد المهللين المحبذين المزينين له و محترفي التغني المخادع الماكر به. ذلك لإن هذا الاعتدال المرضي ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم, و لكن أيضاً ضمان التسلط و السيطرة المطلقة. فمجتمع هذا النوع من الاعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع, و مجتمع بلا صراع هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان.
و إذا كان النظام الحاكم يباهي دائماً بما يسميه "الاستقرار"في المجتمع المصري, لا سيما في مقابل عدم الاستقرار الذي يميز معظم الدول العربية الشقيقة, فإن الحقيقة و الواقع أن ذلك إنما هو استقرار الجسد الميت و الجثة الهامدة و إذا كان صحيحاً أن بعض الدول العربية و غير العربية في المنطقة تعاني من عدم الاستقرار. فإن ما تعاني منه مصر حقيقة إنما هو فرط الاستقرار.
في الوقت نفسه، فبقدر ما كان النظام الحاكم يزين و يمجد فضيلة الاعتدال المقول هذا، كان و لا يزال يشوه و يندد و يدين أدني علامة أو بادرة من اليقظة و الوعي و الفهم أو أوهي اختلاجة من التحرك و العنف الثوري من جانب الشعب المخدوع المقهور، و كان أبداً يرفع شعار محاربة العنف و يصمه زوراً و بهتاناً بالإرهاب البشع و الفوضي و التمرد …..إلخ. و علي سبيل المثال ، فكل انتفاضة شعبية هي "انتفاضة حرامية"، هل تذكر؟
و لا غرابة في هذا كله بالطبع، فإنما هو الوجه الآخر المكمل لفضيلة - زذيلة الاعتدال. غير أن الحقيقة أن ما تصمه السلطة بخطر التطرف و العنف ليس إلا دفاع الشعب الطبيعي عن نفسه ضد ديكتاتوريتها الباطشة الكابتة، مثلما هو رد فعل المجتمع الصحي ضد تطرفها هي في الاعتدال السلبي و الاستسلامي العاجز المريض.
علي أن أغرب في الأمر حقاً أن الذي يمارس العنف فعلاً بأبشع صوره من دموية و تعذيب و إرهاب إنما هو الحكم نفسه و الحاكم وحده، و ذلك علي الشعب تحديداًـ و ذلك أيضاً كأمر يومي و كروتين عادي طوال التاريخ، فالشكل الوحيد للعنف "الشرعي"في مصر كان تبر التاريخ و حتي اللحظة هو الاستبداد و الطغيان و البطش الحاكم.
فإن من هذا جميعاًـ من الاعتدال المريض العاجز و من غياب الغنف الثوري الصحي، كانت أزمة الديموقراطية المتوطئة في مصر، بل كان إزمان الديكتاتورية بها، بل و أسوأ أنواع الديكتاتورية لأنها أشدها عجزاً و فشلاً و تفاهة بقدر ما هي أشدها ضراوة و استماتة و أنانية و استكباراً، و كما رأينا، لم يحدث أن قامت أو نجحت ثورة شعبية في مصر ، و لا حدث أن أسقط الشعب النظام الحاكم أو فرض الحاكم قط.